[/center]زوجته وفدائيون عايشوه يستذكرون أمجاده
"الرجل الظل" في غزة "البكباشي" الشهيد مصطفى حافظ
[ 03/09/2009 - 05:42 ص ]
غزة/ القاهرة - هديل عطاالله - صحيفة "فلسطين"
معظمنا لا يعرف عن "الشهيد مصطفى حافظ"، إلا أنه اسمُ لمناضلٍ مصري خلدّه الشعب الفلسطيني بإطلاقه على شارعٍ ومدرسةٍ في قطاع غزة، ولكن هذا البطل الذي كان بمعنى الكلمة أباً للفدائيين منذ مطلع الخمسينيات من القرن الماضي يستحقُ منا أن نعرف عن سيرته الكثير، كيف لا و غزة الشامخة شهدت على بطولاته التي أرّقت مضاجع الاسرائيليين وكبدتّهم خسائر فادحة، إلى درجة أن كبار قادتهم متمثلين في كلٍ من "بنغوريون" و"موشيه ديان" كانوا يوبخّون ضباط أجهزة مخابراتهم على فشلهم في اغتياله لأكثر من مرة، مما اضطرهم إلى الإعلان عن مكافآةٍ قدرها مليون دولار لمن يدل على "الرجل الظل"-كما لقبوه-حيث لم يكن أحداً يعرف صورته، إلى أن نجحوا في تحقيق مبتغاهم في 11يوليو عام 1956م عبر تسليمه "ظرفٍ" ملغوم.
وعلى الرغم من أنه لم يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره إلا أن حافظ حظيّ بثقة الرئيس جمال عبد الناصر، فمنَحه أكثر من رتبةٍ استثنائية حتى أصبح عميداً، حيث تقلد منصب مدير المخابرات المصرية بعد عام 1948م، وكانت مهمته تتمثل في إدارة كافة عمليات التجسس والاستطلاع داخل إسرائيل وتجنيد العملاء لمعرفة ما يجري فيها، وفي عام 1955 أصبح مسؤولاً عن كتيبة الفدائيين التي أنشئت لمواجهةِ الوحدة رقم 101 التي شكّلها آنذاك آرئيل شارون للإغارة على القرى الفلسطينية.
"فلسطين" بحثت طويلاً...وفي نهاية المطافِ عثَرت في كلٍ من "غزة و القاهرة" على أشخاصٍ عايشوا حافظ عن قرب، وعبر هؤلاء الذين عملوا معه و قاسموه حيثيات تلك المرحلة، سجلّنا للقرّاء بعضاً من التفاصيل الشيقة عن المرحلة التي قضاها الرجل في غزة، والإنجارات التي قدمها للعمل المقاوم آنذاك.
شاهدُ من أهله
بدأنا بمن كانت أقرب الناس إلى مصطفى حافظ... إنها زوجته السيدة "درية خلف" (85عام)، التي بالرغم من ضعف سمعها إلا أنها رحبت بكل حبٍ وفخر بالحديث إلى "صحيفةٍ غزية"، فقالت:"والله أني قضيتُ أسعدَ أيام حياتي في غزة فعشتُ مع مصطفى في بيتٍ عادي بغزة منذ عام 1950 إلى 1956م، وما قبل ذلك في عام 48م كان يتقلد منصب الحاكم الإداري في الفالوجة، حيث نجا بأعجوبةٍ من الموت وقتها عند احتلال اليهود لفلسطين".
وعن تلك الأيام التي لم يمحوها الزمان تروي السيدة درية الحكاية:" أذكر أنه عندما كّون مجموعات الفدائيين، مكث شهراً كاملاً يذهب كل صباح إلى المختار في خانيونس، ليعود متأخراً، حيث يستغرق يومه كله في اختيار الشباب المناسبين الذين يبدَون استعدادهم للتطوع في كتيبة الفدائيين، ليبتعثهم إلى الأرض المحتلة".
وتتابع "أم محمد" التي عاشت على ذكرى زوجها بعد أن رحل عنها وهو في ريعان شبابه تاركاً لها خمسة أطفال:"كان من أهم ما يميزه الحذر الشديد، وقد تستغربين أنه برغم كل التهديدات التي كانت تطلقها (اسرائيل) عبر وسائل إعلامها، وبإعلانها عن مكافآة كبيرة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، برغم ما سبق كنت أشعر بالأمان دائماً، ولم أتصور أبداً أن يحدث له مكروه، وأذكر أنه كان يوصيني دائماً:"إياكِ أن تأخذي شيئاً غير معروف مصدره، وحذارِ أن تفتحي قلماً أو ساعة أو أي شىءٍ قد تجدوه في حديقة المنزل، إلى درجة أني قلت له ذات مرة:"كفاية يا مصطفى حفظنا الدرس"، فرد علي مبتسماً:"عشان لما ننزل مصر ناقصين ما تبقيشي تعيطّي".
وتواصل حديثها:"الدنيا أحيانا كانت تكون قايمة قاعدة" من تنفيذ العمليات، فيعود مصطفى إلى البيت وكأن شيئاً لم يحدث، حيث لم يعتد أن يتكلم معي عن أسرار عمله، ومن أجمل ما فيه هو تواضعه، فذات مرة زار الرئيس المصري عبد الناصر غزة، فهتف الفلسطينيون "يعيش جمال عبد الناصر"، ومن ثم لمدة خمس دقائق دوّى صوتهم كالرعد "يعيش مصطفى حافظ"، حيث قال لي يومها:"ما تتصوريش أد إيه كنت خجلان يا درية!!!.
انفجار الظرف الملغوم
في ليلة استشهاده أسرّ حافظ لزوجته بما حدث في رحلته الأخيرة إلى مصر:"كان مصطفى في إجازة والتقى المشير عبد الحكيم " قائد عام القوات المسلحة المصرية" آنذاك، وشكا له أنه تعبَ من العمل في غزة إلى درجة أن عينيه لا تعرف النوم، ولكن المشير طلب منه أن يصبر ثلاثة أشهر، ومن ثم سيخرجه إلى أي ملحق عسكري في الخارج، فعندما عاد من مصر، أخبرني وكانت هيئته توحي بشىءٍ غريب".
وأضافت بألمٍ واضح:"في صباح اليوم التالي ذهب للعمل، ومن ثم عاد ظهراً، فأمر الحرس أن يرافقوا أبنائنا إلى السينما، أما أنا فوعدني بأن يعود لي بعد أن ينهي بعض الأعمال كي يصحبني في جولة في شارع عمر المختار، وبالفعل ذهب إلى عمله في المخابرات، وكان يعمل معه عميل مزدوج اسمه "محمد الطلايقة"، الذي كان له عمُ مرتبط مع العدو، حيث أمر "ابن أخيه" بأن يسلم الظرف إلى لطفي العكاوي- وهو ضابط فلسطيني-".
جديرُ بالذكر أن الطلايقة عُرف بإخلاصه الشديد لحافظ، إلى درجة أن العدو اختبره لأكثر من مرة، واكتشف مدى ولائه له.
بأسلوبٍ مشوّق تستأنف السيدة درية:" طلايقة وضع "الظرف" في صدره، إلى أن وصل مصطفى وأخبره بالقصة، فما كان منه إلا أن انزعج بشدة، واستنكر أنه كيف لضابط فلسطيني – ويقصد عكاوي- يسمح له ضميره بالعمل مع (اسرائيل)، فقال لمحمد:"أنا الآن سأفتحه ثم أغلقه كما كان، وأنت توصله إلى العكاوي، ومن ثم عندما يعطيك الرد تعال لي، وإذ بهذه الخطة عبارة عن حيلة من اليهود لأنهم يعرفون أن محمد سيذهب أولاً لمصطفى حافظ، وطبعاً انفجر الظرف الملغوم فيه".
وكان حدثاً جللاً
بآثارٍ بقيت على صوتها من دموع الوداع وصفت المشهد الحارق قائلةً:"صوت اللغم دوىّ قوياً في غزة، وعندما أخبروني بأن مصطفى مصاب، خرجت إلى شارع عمر المختار فلم تعرف السيارة أن تسير من شدة الزحام، إلى أن وصلت مستشفى "تل الزهور"، فوجدتُ أروقتها تكتظ بالضباط الكبار من جميع المناطق، وأنا طبعاً كنتُ في حالة صدمة، لكن الأطباء طمئنوني بأنه مجرد إصابةٍ في عينيه، فأخذت أقرأ القرآن، وبعد إلحاحٍ شديد مني سمحوا لي برؤيته من بعيد، وانتظرنا من الواحدة صباحاً حتى الخامسة فجراً حين لفظ آخر أنفاسه، ولكنهم رفضوا أن يخبروني بوفاته، واكتفوا بالقول لي أن استعدي للرحيل لأنهم سينقلوه إلى مصر لإجراء عملية جراحية له، وبالفعل عدتُ إلى بيتي لأجهزّ الحقائب، فوجدتُ حشوداً من الفلسطينيين في انتظاري، والشوارع مليئة بالناس، ولم أعرف بموته إلا بعد وصولي القاهرة، حيث قدم لي الرئيس عبد الناصر واجب العزاء بنفسه".
وفي نهاية حديثها رفعت قبعّة الحب والاحترام للفلسطينيين بقولها:"لا تتصوروا كم أن وفاءكم ومعروفكم يأسرني، فحتى الآن هناك الكثيرون منكم يتواصلون معي من باب الوفاء لزوجي، فلا يوجد أي فلسطيني لم يكن في جيبته صورة لمصطفى حافظ، ويكفيني فخراً أنه عندما دخل الاحتلال غزة عام 1967م، كانوا عندما يجدون صورته في المحلات والبيوت يدوسونها بحقد، مما جعل الفلسطينيين يغطون صورة مصطفى بكيس ثم يدفنوها في التراب، حتى يحفظوها من شر تمزيق الأعداء".
عمليات موجعة
عثرنا بصعوبة على أحد الفدائيين الذي لا زال حياً يرزق..إنه (ر.خ) البالغ (75عام) وهو أحد قيادات المجموعات الفدائية التي شكلّها "البكباشي" مصطفى حافظ، حيث تحدّث بإعجابٍ وفخر شديدين:"لا تزال آخر كلماته ترنّ في أذني، عندما كان يقول وصيته:"أوصيكم خيراً بأبنائي...ليسوا أبنائي الذين أنجبتهم، بل أولادي الفدائيين"، وقد كانت الكتيبة التي كونّها تتضمن 500 فدائي الذين علقّ حافظ الأمل عليهم بأنهم هم من سيحرّروا فلسطين، وكان يرغب في تكوين مجموعات مماثلة في الضفة الغربية، كما أنه عيّن 45 قائد مجموعة، وأنا كنت أحد هذه القيادات التي انضمت إلى الكتيبة في الرابع من نيسان 1954م، ويعتبرني حافظ الرجل الثالث في منطقة الشمال، حيث كانت المجموعات مقسمة حسب مناطق القطاع".
واعتاد حافظ أن يجتمع بكل قيادات المجموعات في أحد الاستراحات، ومن الفدائيين الفلسطينيين الذين عملوا مع حافظ وتوفاهم الله، يسرد العم (ر.خ) الذي يقطن غزة، بعض الأسماء:"أحمد عمران، وصالح فرج، وخميس الوصيلي، ومحمود ابراهيم محسن، وسعيد الحج عبدالله".
ويروي عن أهم الذكريات التي يذكرها كل من عاش تلك الحقبة هو قصف غزة "بالمورتر" في عام 1955م، هذا الحدث الذي فجرّ الغضب عند حافظ:"في ذلك اليوم المؤلم استدعانا "البكباشي" وقال لنا:"ها أنتم ترون لحوم النساء والشباب والشيوخ ملقاة في الشوارع، وهذا يستدعي أن تصلوا إلى بعض المنشآت والمستعمرات الاسرائيلية لتدمروها"، وأنا شخصياً كلّفني بثلاث أهداف، الهدف الأول "كوبري لم استطع الوصول إليه، والهدف الثاني وجدت مستعمرة فيها سينما، جنوب "بيار تعبيا" قرب قرية "بيت داراس"، المهم أني عملت أربع عبوات ناسفة ووضعتهم في السينما التي كان يتواجد بها ما يزيد عن خمسين إسرائيلي، وأمرت الشباب المرافقين لي أن يقفوا أمام السينما برشاشاتهم حتى يطلقوا النار على من يحاول الخروج، ووقتها الإذاعة الإسرائيلية لم تفصح عن عدد القتل واكتفت كعادتها بالقول أنه لم تحدث أي خسائر بشرية!!".
وأضاف العم (ر.خ) بنبرةٍ تزاوجُ بين الحنين والحذر:"نفذّت أيضاً برفقة مجموعتي التي ضمّت ستة فدائيين، عملية في "السافرية" بالقرب من اللد والرملة، حيث كلفّني حافظ باستطلاع كلية حربية، وبواسطة عميل لمصطفى حافظ داخل الأرض المحتلة، استطعت الوصول إلى الكلية، ووقتها لم أجد أحد من الطلاب اليهود، فوضعت ألغاماً متفجرة، بحيث كان "الفتيل" بعيد عن الكلية بمقدار تسعين ألف قدم، ولحظة وصول الطلبة الذين بلغ عددهم أكثر من مئة أشعلتُ الفتيل، وأنا واثق بأن عدد الضحايا كان ليس هينّاً، ولكن الإذاعة الاسرئيلية اكتفت بذكر مقتل الحارس وقليل من الطلبة في العملية، وهذا كذب".
واعتبر أن التخطيط العسكري الصحيح، وقدرته على بثّ الروح المعنوية العالية، من أهم ما اتسم به حافظ، لافتاً أن من أهم أولوياته "سلامة الجندي"، فكان يقول لنا:"أهم حاجة ترجعوا لي سالمين، وأنا جئتُ أتطوع من أجل أن تستردوا وطنكم وهذا سيتم بكم وليس بي، فأنا علي التخطيط وأنتم عليكم التنفيذ".
.